كل هذا الغباء

أنتم لا تعرفون النوبيين. أنتم لا تعرفونهم، للأسف. النوبيون مصريون مسالمون، يريدون أن يعيشوا في هدوء وسلام، وأن يؤدوا واجباتهم ـ كأي مواطن مصري ـ مقابل الحصول علي حقوقهم كاملة. ليس من السهل أن يدخل نوبي في مشاجرة، ونادرا ما تشهد قري النوبة حالات قتل، إن لم يكن ذلك معدوما. لكنكم لا تعرفون النوبيين، ولا تعرفون معني أو دلالة أن يخرج مئات النوبيين للاحتجاج ضد السلطة أو رمز السلطة. هذا يعني ـ ببساطة ـ أن السيف بلغ الحلقوم، وأنهم لم يجدوا مفرا من الاحتجاج، وهذا يعني أن هناك ممارسات قمعية غبية دفعتهم دفعا إلي ذلك.ضابط أخرج مسدسه، وقتل مواطنا نوبيا يشتبه ـ مجرد اشتباه ـ في كونه تاجر مخدرات. ما الذي تنتظرون كرد فعل؟ وليست هذه هي الواقعة الوحيدة كما تعرفون، فهناك ضابط آخر قتل مواطنا آخر في العريش، وضابط ثالث قتل مواطنا ثالثا في الدقي، وكل هذا حدث خلال ثلاثة أيام فقط، بما يعني أن القتل في الشارع، وفي عز الضهر يمكن أن يكون سياسة منهجية تطبقها وزارة الداخلية، التي يبدو أنها لم تعد تكتفي بمنهج التعذيب حتي الموت في المعتقلات وأقسام الشرطة. فما الذي تنتظرون؟ هل يعتذر أهالي القتلي للقتلة؟كما أنكم لا تعرفون البدو الذين ضحوا من أجلنا، وعاشوا سنوات طويلة تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، فأنتم ـ أيضا ـ لا تعرفون النوبيين. هؤلاء البشر الطيبون ضحوا من أجلنا عدة مرات، لكي نعيش نحن حياة كريمة. ضحوا من أجلنا عند بناء خزان أسوان في بداية القرن الماضي، وتعرضوا للتهجير من بيوتهم وقراهم، وتكرر التهجير مع كل تعلية للخزان، إلي أن جاء التهجير الأكبر مع بناء السد العالي. كانت زراعاتهم تغرق، وحيواناتهم تغرق، وبيوتهم تغرق، ونخيلهم يغرق، ولم يكن أمامهم إلا البكاء. وكما كوفئ بدو سيناء بالتجاهل، وجد النوبيون أنفسهم مهملين في صحراء كوم أمبو، ببيوت خرسانية لا روح فيها، وشوارع صفراء لا يعرفونها، وأرض قاحلة لا تقبل ريا ولا تنبت زرعا.. وفوق هذا كله، لم يجد النوبيون الذين كانوا يعملون في الوجه البحري لهم نصيبا من بيوت قري التهجير أو أراضيها.كأننا نعاقب بدو سيناء، لأنهم ضحوا من أجلنا، واحتملوا مرارة الاحتلال الإسرائيلي، وقاوموه واستمسكوا بأرضهم وبمصريتهم إلي أن جاءت الحرية. كأننا نعاقب النوبيين لأنهم ضحوا ـ عن طيب خاطر ـ ببيوتهم، وبتاريخهم، وبموتاهم المدفونين في أرضهم، لكي نجد شربة ماء عندما يأتي الجفاف.ما كل هذا الغباء؟!